محمد حميد الله
1908-2002م
شاء الله لي أن أوفد إلى فرنسا للدراسة العليا عام 1969م، وأن أقرأ كتاب محمد حميد الله: التعريف بالإسلام L'Initiation à l'Islam، باللغة الفرنسية. قضيتُ السنة الأولى في نيس Nice، ثم انتقلت إلى رين Rennes، ولعلً بعض الزملاء طلبوا من الجامعة دعوة محمد حميد الله لإلقاء محاضرة باللغة الفرنسية، في جمعٍ من العرب والمسلمين والأجانب، كان متمكنًا من محاضرته، واستطاع أن يتحكّم بالحضور، وأن ينتزع منهم الإعجاب، والضحك إذا ما أراده لهم!
ذهبتُ إلى محطة القطار لاستقباله بسيارتي المتواضعة بيجو 304 كنت اشتريتُها بـ 700 فرنك، وبعتُها بعد ذلك بـ 100 فرنك! استقبلتُه لنذهب معًا إلى المدينة الجامعية، حيث بعض الطلاب العرب والمسلمين من جنسيات مختلفة. جلس معنا بتواضع، وتحمّل غلظتنا وأصواتنا وضجيجنا، ولم يقبل أن يأكل معنا، وقد علمتُ أنه نباتي! صرفتٍْ له الجامعة مكافأة مالية، فلم يقبلها! وعاد إلى باريس في اليوم نفسه!
رأيته مرة في مسجد باريس، في باحة المسجد، وكانت معه امرأة تسأله بعض الأسئلة، انتظرتُ ثم انصرفتُ، ولم أتمكن من مقابلته. رأيته في بعض المناسبات يرتدي لباسًا متواضعًا، ويحمل كاميرا في عنقه لتصوير المساجد والمشاهد الأثرية، لا يمكنك أن تتوقع أنه محمد حميد الله!
بعد أن عدتُ من فرنسا، راسلته وسألته أن أترجم له عن الفرنسية كتابه عن السيرة النبوية، فكتب لي: سبقك صبحي الصالح، ولم يتمكن، بسبب كثرة المخطوطات التي رجعتُ إليها في الكتاب! وقد علمتُ من سيرة صبحي الصالح أنه كان صديقًا له أثناء دراسته في باريس، وأسسا معًا أول مركز إسلامي في باريس.
هذا الرجل لم يتزوج، لا أدري هل عن مرض أم عن انشغال خاف معه أن يظلم زوجته؟ يعرف لغاتٍ أجنبيةً كثيرةً، يكتب بها ويحاضر. أقام في باريس خمسين عامًا، في شقة متواضعة، لا زوجة ولا خادم ولا سائق ولا راديو ولا تلفزيون ولا ... يخدم نفسه بنفسه!
حصل على عدة شهادات دكتوراه من جامعات غربية مختلفة، وألّف الكثير من الكتب، بلغات مختلفة، وحقّق الكثير منها، ونشر الكثير من المقالات العلمية، وألقى عددًا كبيرًا من المحاضرات في بلدان كثيرة!
وأسلم على يديه آلاف الفرنسيين! منهم من صاروا بعد ذلك كتّابًا ومفكّرين!
لفت نظري أنه لما ناهز التسعين عامًا، وأصابه المرض والشلل، استدعته ابنة أخته، فسافر إليها في الولايات المتحدة الأمريكية، وتوفي فيها، ولم يكن له من تركة إلا مكتبته!
تعجبتُ من الناس كيف لم يلاحظوه خلال هذه المدّة، وكيف لم يجد إلا قريبته هذه، وكأنّه واحد من غمار الناس، بعد كل ما قدّم للناس!
رشحه إسماعيل الأكوع لجائزة الملك فيصل العالمية عام 1994م، بالاتفاق مع شكري فيصل الذي كان أحد أعضاء لجنة الجائزة، فطلبوا منه بعض كتبه، فاعتذر وقال: أنا أعمل لله، لا تُفسدوا عليّ ديني!
أما كان بإمكان مؤسسة الملك فيصل أن تمنحه الجائزة من دون أن تطلب منه كتبه؟! أما كان بإمكانها أن تلتقط كتبه من الأسواق؟! أنا أعتقد أنه لم يجد من اللائق أن يقدّم لهم كتبه، فما بالك بعد ذلك إذا فاز غيرُه، ولم يفز هو؟! كان من الممكن أن يفوز بالجائزة ويتبرّع بها!
منحته باكستان أعلى جائزة، وتبرّع بها: مليون روبية، لمعهد الدراسات الإسلامية في إسلام آباد!
الجمعة 17 نيسان 2015 رفيق يونس المصري
No comments:
Post a Comment