مِن نُكَتِ القرآن
حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم
التفات أم حذف؟
(هو الذي يُسيّركم في البرّ والبحر حتى إذا كنتُم في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بهم بريحٍ طيّبةٍ وفرحوا بها جاءتْها ريحٌ عاصفٌ وجاءهمُ الموجُ مِن كلّ مكانٍ وظنُّوا أنّهم أُحيطَ بهم دعَوا الله مُخلصينَ له الدينَ لئنْ أنجيتنا مِن هذه لنكوننّ مِن الشاكرينَ) يونس 22.
لم يقل:
وجرتْ بهم.
وجرين بهم:
يدل على أن الفُلك بالجمع وليس بالمفرد.
وهي تطلق على المفرد والجمع.
لم يقل:
وحاءتهن ريح عاصف.
جاءتها: جاءت الفلك، على الجمع.
لم يقل:
لئن أنجانا.
لم يقل:
حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم.
هل هذا من الالتفات؟
أرى أن القول هنا بأنه من الالتفات يجعل الالتفات صادمًا، وليس انسيابيًا كما في الحالات الأخرى، ولهذا بحثت عن سبب آخر فوجدت أنه الحذف وليس الالتفات! والله أعلم.
ولعل هذا معنى قول ابن عطية الذي سيرد في نص أبي حيان.
التقدير:
حتى إذا كنتم في الفلك، وكانوا فيها وجرين بهم.
فهنا عدول (التفات) عن الكلام عن الفئة الأولى للكلام عن الفئة الثانية، لكن لما اعتمد على الحذف غلّبنا الحذف على الالتفات. فلو كانت عبارة: "وكانوا فيها" (راجع تقدير الآية) مذكورة غير محذوفة لكانت عبارة: (وجرين بهم) وما بعدها لا التفات فيها.
لاحظْ قوله: (وفرحوا ... وحاءهم الموج ... وظنوا ... أحيط بهم ... دعوا)، كل هذا متابعة لقوله في الفئة الثانية: (وجرين بهم).
فلم يقل: وفرحتم ... وجاءكم الموج ... وظننتم ... أحيط بكم ... دعوتم.
أقوال المفسرين:
كل المفسرين الذين جاءوا بعد الزمخشري نقلوا ما قاله وفيه غموض.
الطبري:
قال: (وجَرَينَ بهم)، وقد قال: (هو الذي يُسيّركم) فخاطب، ثم عاد إلى الخبر عن الغائب. وقد بينتُ ذلك في غير موضع من الكتاب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع».
البغوي:
الرازي:
« ما الفائدة في صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة؟
الجواب: فيه وجوه:
الأول: قال صاحب "الكشاف": المقصود هو المبالغة، كأنه تعالى يذكر حالهم لغيرهم لتعجيبهم منها، ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتقبيح.
الثاني: قال أبو علي الجبّائي: إن مخاطبته تعالى لعباده هي على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، فهي بمنزلة الخبر عن الغائب. وكل من أقام الغائب مقام المخاطب حسن منه أن يردّه مرة أخرى إلى الغائب.
الثالث: وهو الذي خطر بالبال في الحال، أن الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الحضور فإنه يدلّ على مزيد التقرب والإكرام. وأما ضده وهو الانتقال من لفظ الحضور إلى لفظ الغيبة، يدلّ على المقت والتبعيد (...). وهو اللائق بحال هؤلاء، لأن من كان صفته أنه يقابل إحسان الله تعالى إليه بالكفران، كان اللائق به ما ذكرناه».
الثالث: وهو الذي خطر بالبال في الحال، أن الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الحضور فإنه يدلّ على مزيد التقرب والإكرام. وأما ضده وهو الانتقال من لفظ الحضور إلى لفظ الغيبة، يدلّ على المقت والتبعيد (...). وهو اللائق بحال هؤلاء، لأن من كان صفته أنه يقابل إحسان الله تعالى إليه بالكفران، كان اللائق به ما ذكرناه».
أقول:
السؤال عن فائدة الالتفات سؤال عن وظيفة خاصة له، وليس الاكتفاء بوظيفته العامة التي هي تنشيط القارئ أو السامع.
القرطبي:
» (وجرين بهم): خروج من الخطاب إلى الغيبة، وهو في القرآن وأشعار العرب كثير».
أبو حيان:
« الضمير في (وجرين) عائد على (الفلك)، على معنى الجمع، إذ الفلك كما تقدم في سورة البقرة يكون مفردًا وجمعًا. والضمير في: (بهم) عائد على الكائنين في الفلك. وهو التفات، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة. وفائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة قال الزمخشري: المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح، انتهى.
والذي يظهر، والله أعلم، أن حكمة الالتفات هنا هي أن قوله: (هو الذي يُسيّركم في البر والبحر) خطاب فيه امتنان وإظهار نعمة للمخاطبين، والمسيّرون في البر والبحر مؤمنون وكفار، والخطاب شامل، فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح على الشكر، ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيرجع. فلمّا ذكرت حالة، آل الأمر في آخرها إلى أن الملتبس بها هو باغٍ في الأرض بغير الحقّ، عدل عن الخطاب إلى الغيبة، حتى لا يكون المؤمنون يخاطبون بصدور مثل هذه الحالة التي آخرها البغي.
وقال ابن عطية: (بهم) خروج من الحضور إلى الغيبة، وحسن ذلك لأن قوله: (كنتم في الفلك) هو بالمعنى المعقول، حتى إذا حصل بعضكم في السفن انتهى، فكأنه قدّر مفردًا غائبًا يعاد الضمير عليه، فيصير كقوله تعالى: (أو كظلُماتٍ في بحرٍ لُجّي يغشاه) أي: أو كذي ظلمات، فعاد الضمير غائبًا على اسم غائب، فلا يكون ذلك من باب الالتفات».
الشوكاني:
«(وجرين): أي: السفن. (بهم): أي بالراكبين عليها (...).
المنار:
«(وجرين بهم بريح طيبة) أي: وجرت هذه الفلك بمن فيها بسبب ريح طيبة، أي رخاء مواتية لهم في جهة سيرهم (...). وفي قوله: (بهم) التفات عن الخطاب إلى الغيبة، فائدته، كما قال الزمخشري: المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح لها، لما وصفهم به بعد ذلك من كفر النعمة».
ابن عاشور:
« من بديع الأسلوب في الآية أنها لمّا كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمائر الخطاب الصالحة لجميع السامعين، فلمّا تهيأت للانتقال إلى ذكر الضرّاء وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى ضمير الغيبة، لتلوين الأسلوب بما يخلصه إلى الإفضاء إلى ما يخصّ المشركين، فقال: (وجرَيْنَ بهم) على طريقة الالتفات، أي: وجرين بكم.
وهكذا أجريت الضمائر جامعة للفريقين إلى أن قال: (فلمّا أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحقّ) فإن هذا ليس من شيم المؤمنين، فتمحّض ضمير الغيبة هذا للمشركين، فقد أخرج من الخبر من عدا الذين يبغون في الأرض بغير الحق، تعويلاً على القرينة، لأن الذين يبغون في الأرض بغير الحق لا يشمل المسلمين.
وهذا ضرب من الالتفات لم ينبه عليه أهل المعاني، وهو كالتخصيص بطريق الرمز.
وقد عُدّتْ هذه الآية من أمثلة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في ضمائر الغيبة كلها تبعًا للكشاف، بناءً على جعل ضمائر الخطاب للمشركين، وجعل ضمائر الغيبة لهم أيضًا، وما نحوته أنا أليق.
وابتدئ الإتيان بضمير الغيبة من آخر ذكر النعمة عند قوله: (وجرين بهم بريح طيبة) للتصريح بأن النعمة شملتهم، وللإشارة إلى أن مجيء العاصفة فجأة، في حال الفرح مراد منه ابتلاؤهم وتخويفهم. فهو تمهيد لقوله: (وجاءهمُ الموجُ مِن كل مكان)».
الخميس 30 نيسان 2015 رفيق يونس المصري
No comments:
Post a Comment